
أمریکا من السیادة الی التذلل
– كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة القرار في إيران، وكانت تتدخل في الصغيرة والكبيرة، ولها الكلمة الفصل في كافة الشؤون دون استثناء، حتى أن مجلس النواب أصدر قانوناً يمنع القضاء الإيراني من محاكمة وملاحقة أي أمريكي يرتكب أية جريمة في إيران، بل وتسري الحصانة القضائية على من هم في عهدة الأمريكيين من العاملين معهم والخَدَم أيضاً، وكان يوجد في ذلك الوقت أكثر من ٥٠٠٠٠ أمريكي في إيران تحت إسم المستشارين موزعين في مختلف الحقول والمجالات ومتواجدين في كافة المدن والمؤسسات.
– لقد كانت صرخة الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني في العام ١٩٦٣ هو بسبب هذا الذل الإيراني أمام الأمريكي، والمطالبة بالحفاظ على الحد الأدنى من الكرامة الوطنية، وكان يخاطب الشاه نفسه ناصحاً إياه بأن يملك قليلاً من الإستقلالية والكرامة الشخصية أمام الإملاءات الأمريكية.
– وقد دفع ثمن تلك المطالبة بأن اعتقلته السلطات ثم قامت بإبعاده إلى تركيا ومنها إلى العراق لعل الساحة تخلو من أي صوت للمعارضة الوطنية وتبقى السيادة الكاملة للأمريكي على البلاد والعباد، لكن السيد روح الله لم يكلّ في محاولاته لإنهاض الشعب الإيراني وحضّه على رفض الإنصياع أمام المستعمر الأمريكي وهو في المنفى، وذلك من خلال البيانات التي كان يُصدرها في المناسبات المختلفة من منزله المتواضع جداً في النجف الأشرف ويقوم المناصرون له بتهريبها إلى مختلف المناطق الإيرانية وتوزيعها بين أفراد الشعب مخاطرين بحياتهم وحريتهم لأن جهاز المخابرات الإيراني ( الساواك ) كان بالمرصاد، وعملاؤه كانوا متواجدين في كل بيت ومسجد ومدرسة وجامعة ومعمل ومصنع، ويواجهون أية حركة بمنتهى الوحشية ويتعاملون مع المعارضين دون رحمة، لكن عدد أنصار الإمام الخميني كان يزداد يوماً بعد يوم، ودائرة المعارضين لسلطة الشاه على مختلف المستويات كانت تتسع عاماً بعد عام، حتى كانت الشرارة في وفاة السيد مصطفى ابن الإمام الخميني بمنزله في النجف الأشرف، حيث كان العُرف بين مراجع الدين هناك أن يُعلن نبأ وفاة المراجع وأبناؤهم على مئذنة مقام الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ويقيم المراجع (مجالس فاتحة) عن روح ذلك المتوفى، وهنا كان تعاطف المراجع والحوزة العلمية مع الإمام الخميني بعد أن كان الحصار الكامل عليه ومحاولة عزله ومنع الطلاب من الحضور في حلقات دروسه بل ودخول منزله.
– وفي إيران استطاع المؤيدون للإمام بعد جهود كثيرة أن يأخذوا موافقة السلطة وينشروا نبأ وفاة ( السيد مصطفى ابن آية الله السيد روح الله الخميني ) في القسم الخاص بالوفيات في صحيفتي ” كيهان ” و ” إطلاعات “، ومن هنا علم الشعب الإيراني خبر وفاة ابن الإمام، وكانت هذه أول مرة يَرِد إسم الإمام الخميني في الصحافة الرسمية، وعلى الأثر بدأت الخطوات الأولى لإقامة ( مجالس فاتحة ) هنا وهناك في العاصمة وفي الحوزات العلمية فكانت الفاتحة الأولى في طهران وصاحب الدعوة هو الشهيد مطهري والخطيب هو الشيخ حسن روحاني، وهناك كان إطلاق لقب الإمام على السيد روح الله الموسوي الخميني لأول مرة في إيران، وكان التأييد من عموم الحاضرين في المجلس ورفع التكبير، وتوسعت دائرة ( الفواتح ) من قبل العلماء والمراجع في المدن الإيرانية ما دفع ( الساواك ) إلى شن حملة اعتقالات بين الخطباء والعلماء الذين يقيمون تلك المجالس ويلقون الخطابات فيها محاولة إحتواء ولجم الساحة.
– لقد أخذت التجمعات طابع التظاهرات العارمة والمواجهات بعد قتل جلاوزة الشاه أحد المتظاهرين في مدينة قم أمام منزل أحد المراجع وهو السيد كاظم شريعتمداري الذي كان في الأساس مؤيداً للشاه لكنه اضطر للتعاطف مع المعارضين لأنه عدّ القتل أمام منزله إهانة شخصية له وهتكاً لحرمة منزله، فانطلقت التظاهرات في مناسبة مرور أربعين يوماً على استشهاد هذا الشخص في مدينة تبريز التي ينتمي إليها السيد شريعتمداري، وكانت المواجهات مع الجيش لأول مرة وسقط عدد من الشهداء هناك، وتعاطفت المدن الأخرى مع حركة أهالي ” تبريز ” وأقامت ( الفواتح ) وانطلقت التظاهرات الحاشدة في كل مكان، حتى كانت المجزرة الكبرى في ” ميدان ژاله ” في طهران يوم ٨ أيلول من العام ١٩٧٨ حيث سقط العشرات من المتظاهرين، ولحق الجنود بالجرحى إلى غرفة العمليات في المستشفيات للإجهاز عليهم.
– لقد تسبب هذا السلوك الوحشي من جانب جلاوزة الشاه باستفزاز الناس أكثر فتوسعت دائرة المعارضة الشعبية، وانهارت الحكومات المتعددة، وفي النهاية اضطر الشاه للقبول بـ ” شاهبور بختيار ” من رموز الجبهة الوطنية المعارضة رئيساً للوزراء، وقام بتعيين لجنة وفوّض إليها صلاحياته الدستورية وخرج من البلاد بذريعة العلاح والراحة، لكن الأحداث تسارعت وقرر الإمام الخميني العودة إلى إيران من باريس والذي كان انتقل إليها من العراق بعدما رفضت دولة الكويت استقباله غلى أراضيها،، وتحرك قادة العديد من الدول وأرسلوا ممثلين عنهم إلى الإمام متمنين عليه عدم العودة إلى إيران في الظروف الحالية، لكن الإمام قرر مخالفة تلك النصائح والعودة إلى أرض الوطن، فكانت الرحلة المظفرة إلى طهران في اليوم الأول من شباط من العام ١٩٧٩.
– وسقطت حصون النظام الشاهنشاهي واحدة تلو أخرى بسرعة مذهلة، حتى كان يوم الحادي عشر من الشهر نفسه حيث أعلن الجيش الإيراني استسلامه بالكامل بعد أن كان التحق كثيرون من قطاعاته وخاصة القوة الجوية بالثورة في الأيام السابقة، بل وقام ضباط وعناصر من تلك القوة بعرض عسكري أمام الإمام الخميني في مقر إقامته في ” مدرسة علوي ” معلنين له الولاء، ولم يبقَ أمام القوة البرية والبحرية إلاّ الإستسلام بعد تهديد القوة الجوية بقصف الثكنات والمواقع العسكرية لهما في حال عدم الرضوخ لإرادة الشعب.
– ولقد أرسل الرئيس الأمريكي كارتر قبل ذلك مبعوتاً خاصاً له إلى إيران هو الجنرال ” هايزر ” في محاولة للإمساك بالأمور وإعادة الثقة المفقودة إلى جنرالات الشاه ورفع معنوياتهم، وأيضاً تدبير أمر الـ ٥٠٠٠٠ مستشار أمريكي المنتشرين في مختلف القطاعات والمناطق في إيران، لكن تسارع الأحداث لم تُعطِ لقيادات الجيش فرصة الوقوف أمام الثورة العارمة للشعب، فاقتصرت مهمة المبعوث الأمريكي على العمل لضمان ترحيل الأمريكيين من إيران، وهذا ما لم يكن يعارضه الإمام الخميني ومن معه من رجالات الثورة.
– وبدأت منذ اليوم الأول لانتصار الثورة الإسلامية المواجهة الشاملة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها الكيان الصهيوني، فكانت الخطوة الأولى تسليم مبنى السفارة الإسرائيلية إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وإعلانه أول سفارة لفلسطين في العالم، ثم كان بعد ذلك احتلال للسفارة الأمريكية في طهران وأخذ من فيها رهائن رداً على استضافة الولايات المتحدة لشاه إيران، ما اضطرها إلى طرده إلى دولة ” بنما “، وضاقت على الشاه الأرض بما رحبت واستقبله أخيراً انور السادات في القاهرة ومات ودُفن فيها.
– لكن الصراع الإيراني مع الإستكبار الأمريكي لم يتوقف، وكانت مواجهة المؤامرات بمختلف أشكالها وأنواعها وأهمها كان دفع صدام حسبن إلى شن الحرب على الجمهورية الإسلامية لمدة ٨ سنوات والتي أعلن صدام حسين نفسه بعد ذلك أنه قد خاضها استجابة لطلب الإستكبار العالمي وبتمويل من الدول النفطية في الخليج، وهو أبدى ندمه على تلك الحرب حيث أعلن رسمياً قبوله باتفاقية الجزائر مع إيران والتي قام قبل ذلك بتمزيقها على شاشة التلفزيون العراقي ثم أعلن بدء الحرب على إيران.
– وتوسعت دائرة المواجهة بين إيران والولايات المتحدة، وانهار الإتحاد السوفياتي، وفُسح المجال أمام التفرد الأمريكي، وتأسست القاعدة في أفغانستان بقرار أمريكي، وتذرعت الولايات المتحدة بوجود القاعدة خاصة بعد تفجير البرجين في نيويورك لتقوم بغزو أفغانستان والحضور العسكري في جوار الجمهورية الإسلامية، وفي نفس الوقت أقامت قواعد عسكرية بالعشرات في الدول المجاورة لإيران والتي أعلنت انفصالها عن الإتحاد السوفياتي، ثم التذرع بوجود أسلحة دمار شامل في العراق وهي الدولة الثانية المحاذية للجمهورية الإسلامية واحتلاله عسكرياً، فصارت إيران بين فكّي كماشة الولايات المتحدة ومحاطة بشبكة من القواعد العسكرية الأمريكية، لكن النتيجة كانت هزيمة أمريكا في العراق وتوسع النفوذ الإيراني هناك، وكذلك كان مصير الجنود الأمريكيين في أفغانستان الهروب بكل ذلة وترك أحدث أنواع الأسلحة وراءهم، وسلموا البلاد إلى ” طالبان ” التي انتقلت من أداة طيّعة في يد أمريكا إلى قريب للجمهورية الإسلامية في إيران.
– وتوسعت دائرة الخلاف الروسي مع الولايات المتحدة الأمريكية يوما بعد يوم، وزاد التقارب بين إيران وروسيا، وتضاربت المصالح التجارية بين واشنطن والصين، وكان التقارب الإيراني مع الصين، ورفضت الدول الأوروبية طريقة تعاطي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المُهين معها فتقاربت هي بدورها مع إيران، وكانت النتيجة عُزلة الدولة العظمى والتقارب الدولي مع الجمهورية الإسلامية.
– وسقط ترامب بكل مهانة، وجاء جو بايدن رئيساً متعهداً العودة إلى الإتفاق النووي مع إيران، والذي وقعه الرئيس باراك أوباما لما كان بايدن نائبا للرئيس، لكن الظروف تغيرت كثيراً لصالح الجمهورية الإسلامية، وأصبحت إيران لها اليد العليا، وهي التي تفرض الشروط وتُملي المطالب، وعلى الطرف الأمريكي الإستجابة لها واحدة تلو أخرى مرغمة، وهي تتقدم كل يوم خطوة في مجال تخصيب اليورانيوم من جهة وفي مجال صناعة الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة أيضاً، ومع كل إعلان من جانب إيران عن تقدم في تلك المجالات تتراجع الولايات المتحدة خطوة إلى الوراء، حتى رضي الجانب الأمريكي بكامل الشروط الواردة في الإتفاق النووي، وهي أبدت أيضاً استعدادها لرفع إسم الحرس الثوري الإيراني ومعه فيلق القدس عن قائمة الإرهاب، واكتفت بأن تقدم إيران ضماناً بعدم ملاحقة الأمريكيين في مختلف دول العالم، وذلك بعد أن أعلنت إيران أنها سوف تنتقم من جميع الذين أشرفوا على اغتيال الفريق قاسم سليماني في العراق وفي مقدمهم الرئيس الأمريكي السابق ترامب، ووزير دفاعه ومستشاره للأمن القومي، لكن الطرف الإيراني يرفض التعهد بذلك، وهنا العقدة النهائية في المفاوضات الجارية في العاصمة النمساوية بصورة غير مباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية في إيران.
– إن تورط الإدارة الأمريكية في الحرب الأوكرانية ووقوع أزمة خانقة في الطاقة وارتفاع أسعار النفط والغاز بصورة جنونية في العالم، وظهور بوادر أزمة غذائبة كبرى عالمياً فرض على الولايات المتحدة التخلي عن كثير من ثوابتها وتجاوز كثير من قرارتها، والتنازل عن كبريائها، حيث بدأت التوسل إلى فنزويلا لتعطي النفط لها وهي تبتزها ببيع النفط إلى الدول الأوروبية، وفنزويلا هذه قد تعرضت قبل ذلك من جانب الولايات المتحدة لأصعب أنواع الحصار وشتى صنوف العقوبات حتى بلغ حد تأييد حركة الإنقلاب ضد الرئيس مادورو والإعلان عن تقديم الرشاوى بملايين الدولارات لمن يتخلى عن الرئيس ويخونه، والرئيس بايدن يحاول اليوم التخابر مع ولي العهد السعودي متجاوزاً قرار مقاطعته محملاً إياه شخصياً مسؤولية قتل جمال خاشقجي بمبنى القنصلية السعودية في إسطنبول بتلك الصورة البشعة، كل ذلك لأجل مساعدته في تجاوز أزمة الوقود الخانقة في الولايات المتحدة، لكن بن سلمان هذا لا يردّ على مكالمته، أما الدول الأوروبية فهي أصبحت اليوم قادرة على رفض الإملاءات الأمريكية وعدم الرضوخ لما يقرره سيد البيت الأبيض دون أية مناقشة كما كان من قبل.
– وهنا انقلبت الأمور حيث أصبح السيد الأمريكي في إيران والعالم قبل العام ١٩٧٩ يتحول إلى مستجدٍ هنا وهناك، والعالم كله يرى كيف يتهاوى كبرياء العم سام أمام العمامة الإيرانية، وكيف يجلس المفاوض الإيراني في طهران ويأتي إليه الوسطاء من دول المتطقة والمسؤولون في الإتحاد الأوروبي حاملين الرسائل من جانب الطرف الأمريكي المفاوض، ومنذ اللحظة الأولى من بدء الإجتماعات والطرف الأمريكي يرجو موافقة الطرف الإيراني على الإلتقاء مباشرة معه مبدياً استعداده إزاء ذلك التسهيل في رفع العقوبات، لكن الإيراني الذي آمن بمسيرة الإمام الخميني الراحل والملتزم بمنهجه تحت قيادة آية الله خامنئي حفظه الله يزيد كل يوم من إذلال الأمريكي وذلك على مرأى ومسمع من شعوب العالم وقادة دوله لعلهم برؤيتهم لهذا الواقع الجديد يخرجون من إيمانهم القديم بوجوب تقديم واجب الطاعة للسيد الأمريكي على الدوام والتبعية المطلقة لإملاءات البيت الأبيض، والإنبطاح بذلّ نتيجة لذلك أمام الكيان الغاصب وفتح البلاد أمام الصهاينة المجرمين والتنازل بالكامل عن القضية الفلسطينية، بل والدخول في حلف كامل وشامل مع المحتلين الغاصبين للأرض ضد أصحاب الأرض الحقيقيين.
– ولقد وصلت الوقاحة ببعضهم أن أعطوا للحاخام الصهيوني فرصة إلقاء خطبة الجمعة في المصلين في المسجد الكبير في دولة الإمارات العربية وأمامه حشد كبير من ” المصلين المؤمنين “، ولا نستغرب أمام هذا التسارع في طلب الودّ لـ ” الإسرائيلي ” إذا وجدنا بعد فترة قصيرة خطيب الصهاينة يعتلي المنبر في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي ويقوم بإرشاد المسلمين وتعليمهم فرائض دينهم وتبيان الحلال والحرام في شريعتهم، فتكون القبلة الثانية في مكة قد وقعت بصورة رسمية تحت سلطة اليهود وذلك بعد أن كرسوا سلطتهم بالكامل على القبلة الأولى القدس الشريف، وها هي قطعان الصهاينة تقتحم المسجد الأقصى كل يوم وتهتك حرمة مسرى النبي صلى الله عليه وآله ومبدأ معراجه، في وفت يحتفل أغلب العرب وهم يلبسون اللباس العربي التاريخي (الكوفية والعقال) بذكرى ” إستقلال إسرائيل ” ويقطعون قالب الحلوى وأيديهم تمسك بالأيدي الملطخة بدماء إخوانهم العرب والمعيّنين سفراء للكيان الصهيوني في عواصمهم، متجاهلين قول الله سبحانه في فضح حقيقة النوايا المبيتة للكفار والنهي الصريح للمسلمين عن اتخاذ أولياء منهم بأي حال: ( ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء ) صدق الله العلي العظيم.
– السيد صادق الموسوي :
https://iranalyoum.com/?p=66990
